
لم أكن آمل الكثير من زيارتي لمعرض الكتاب. ولكني وقعتُ مصادفة على كنز! المئات من الكتب بسعر زهيد يتراوح بين دينارين وخمسة دينارات، في جناح قصيّ من القاعة الصغرى.
فقدتُ الإحساس بالوقت وأنا أتصفّح تلك الكتب ذات الرائحة العتيقة، كأنّي أنقّب في ذاكرة من ورق. عدد منها كان طبعات أولى يرجع بعضها إلى خمسينات القرن الماضي، أغلبها في مجالي الأدب والنقد الأدبي مع بعض الكتب في السياسة والفلسفة والاقتصاد. كانت معظم الكتب في حالة جيّدة، وبعض ما تمزّق منها أعيد تجليده وكتابة العنوان عليه بخطّ جميل. وجدت كذلك عشرات الأعداد من مجلّة الهلال الشهيرة، أغلبها وُضع في ترتيب متسلسل. لا شكّ أنّ صاحبها القديم كان يحرص على اقتنائها بشكل منتظم.
الحقيقة أنّني لم أفكّر كثيرا في البداية في مصدر هذه الكتب. حوانيت نهج الدبّاغين وغيرها ملأى بالكتب العتيقة. قيل لي مرّة أنّها تباع بالكيلو.
لفتت انتباهي عبارة على غلاف أحد الكتب: “مكتبة أبي زيّان السعدي”. ضحكت في سرّي وقلتُ: لا شكّ أنّ هناك من استعار هذا الكتاب من ناقدنا الراحل وفرّط فيه. لكنّ هذه العبارة اعترضتني على أغلفة كتب أخرى. وعندما فتحت بعض الكتب، لشعراء تونسيين معاصرين، وجدتها مهداة إلى أبي زيّان السعدي، الناقد التونسي المعروف وأحد مؤسسي اتحاد الكتّاب التونسيين وقد توفيّ في سنة 2014.
حينها انجلت المسألة أمامي. الأمر لا يتعلّق ببعض كتب، وإنمّا هي مكتبة الناقد بأسرها معروضة للبيع بأزهد الأثمان. سألت البائع: كيف وصلت كُتبه إليكم؟ هزّ كتفيه في غير اهتمام: لعلّ ورثته باعوها.
ميراث الأديب يباع على قارعة الطرقات (أو المعارض) بعد أعوام قليلة على وفاته. فُرِّط في هذه الكتب التي كرّس لها معظم سني حياته بملاليم. كأنّ حياته نفسها كانت بلا معنى! لا شكّ أنّ من حازها (أو حازتها) ضاق بها ذرعا ولم ير فيها إلّا مرتعا للرطوبة والغبار يأخذ حيّزا كبيرا من المنزل من المفروض أن يخصّص لشيء أهمّ، كأواني الكريستال مثلا.
ألم يكن من الأكرم للجميع، الراحل وورثته وجمهور القرّاء، أن تهدى مكتبته إلى دار الكتب الوطنية، أو إلى أيّ مكتبة أخرى، فيدوم بها ذكره ويخلّد أثره؟ أم أنّه من المستحيل أن نفكّر أنّ للكتب فائدة في هذا الزمن؟ كم من المكتبات الأخرى لأعلام فكرنا وثقافتنا ألقيت على قارعة الطريق؟
تذكّرت الحدّاد المهدوي، حين أجبر على بيع كتبه، تحت وطأة الفقر لا النسيان، حين كتب:
قالت وأبدت صفحةً ... كالشمس من تحت القناع
بعت الدفاتر وهي آ...خر ما يباع من المتاع
فأجبتها ويدي على ... كبدي، وهممت بانصداع
لا تعجبي مما رأيت ... فنحن في زمن الضياع